الفرح والاجتماع يوم العيد
حسن عبد الحي
ليس من شأنِ المؤمنِ أن تمرَّ عليه الأيامُ والمناسباتُ دون أن يطالعَ أسرارَها وحقائقها.. فتلك الحياة بما فيها هي رصيدُه الذي يتبلَّغ به إلى الله تعالى يوم يلقاه، فالمؤمن دائم النظر والتدبّر لحِكَم الله عز وجل فيما يقدّره على العباد أو يشرعه لهم.
ويوم عيد الفطر يوم شرعه الله لعباده المؤمنين ليفرحوا فيه ويُسرُّوا، إذ يجتمعون جميعًا، حتى من ليس من أهل الصلاة، من أصحاب الأعذار، يحضر ليشهد الخير ودعوة المؤمنين، فيلبسون الجديد، ويأكلون الطيبات، ويواسون الفقير، فتتحقق الحكمة من تشريع العيد في الإسلام، وهو الاجتماع على الفرح بإتمام طاعة الله تعالى وتحصيل مزيد من الخير.
ولما كانت النفوسُ تميل إلى الفرح والانبساط شرع الله لعباده هذا الفرح بالعيد، وجعله عبادة يُثاب عليها المسلم، فنحن إذَنْ يومَ العيد نذكرُ فضلَ الله علينا في تشريعه لنا ما يوافق فطرتَنا التي فطرنا عليها سبحانه وتعالى.
وكذلك تستأنس النفسُ بالاجتماع بمن حولها، فيشرع الله هذا الاجتماع ليكتمل سرورُ النفس بفضل الله تعالى، ولأن مبنَى هذا الفرحِ وهذا الاجتماعِ على طاعة الله تعالى.. فقد شرع الله تعالى من الأعمال التي يتقرب بها المؤمن إلى ربه تعالى، والتي يتعدّى نفعها فيشمل كل عناصر المجتمع.. شرع تعالى ما يكتمل به الفرح والاجتماع في هذا اليوم العظيم.
فعن حفصة رضي الله عنها قالت: "كنا نمنع عواتقَنا (العاتق: هي المرأة في بيت وليها لم تتزوج) أن يخرجن في العيدين، فقدمت امرأةٌ فنزلت قصرَ بني خلف، فحدّثت عن أختها، وكان زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة، وكانت أختي معه في ست، قالت: كنا نداوي الكَلمَى ونقوم على المرضى، فسألت أختي النبي صلى الله عليه وسلم: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا نخرج؟ -أي يوم العيد- قال: (لِتُلبِسْها صاحبتُها من جلبابها، ولتَشهدِ الخيرَ ودعوةَ المسلمين) [أخرجه الشيخان].
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) بيان لحقيقة هذا الاجتماع القائم على طاعة الله في طاعة الله، فهو اجتماع ليواسي المؤمنون بعضهم بعضًا، حتى إن المؤمن ليلبس أخاه من لبسه! وبهذا يتمّ الفرح الحقيقي، فرح الفقير بكفايته، وفرح الغني بعطائه.
فهو اجتماع لترسيخ حقوق الأخوة إذن، حتى تنصهر تلك النفوسُ المؤمنة في بوتقة الإيمان الجامعة، وتخرج عن فرديتها في يوم الاجتماع.
جاء هذا الفرح وهذا الاجتماع بعد شهر طويل حُبست فيه النفسُ على طاعة الله تعالى حتى خرجت عن أهوائها، فاستعدت للبذل والعطاء بعد ذلك، كما جاء بعد شهر كامل يتذكّر فيه الصائمُ كلَّ يومٍ جوعَ المحتاج والفقير، ثم إنه يختم بزكاة الفطر، التي هي طهرة للصائم، وطعمة للمسكين.. جاء كلّ هذا لترسَخَ في النفوس معاني التكافل المختلفة، التكافل المعنوي باستشعار أحوال الفقير والمحتاج، والتكافل الحسي بالبذل والعطاء، وعندئذٍ يتحقق الاجتماعُ، ويتحقق الفرح، على الوجه الأكمل.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرسى قواعدَ التكافل في هذا اليوم بتلك الإشارة اللطيفة: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها).. فإن مجالات التكافل في الإسلام تشمل ما هو أعم من إعارة ثوب أو إهدائه.
وإنّ أولى ما نواسي به المسلمين في زماننا هذا -وقد تكالبت عليهم الهمومُ في مشارق الأرض ومغاربها- في يوم العيد هو مشاطرتُهم أحزانَهم ومآسيهم، فإن رُوح الجماعة المسلمة تصل بينهم مهما فَرَّقت بينهم الأوطانُ أو اختلفت بينهم الألسنةُ والأنساب.
فيكتمل فرح المسلم بالعيد بفرح سائر المسلمين معه، وينقص فرحه إذا نقص فرحهم، وهكذا تتّحد الأمةُ ظاهرًا وباطنًا، تتحد فتقوم على الفقير والمحتاج، كما تتحد فتهتم بهموم المكروبين، تتحد بمشاعرها، كما تتحد في أعمالها.
تلك بعض دلائل الفرح والاجتماع يوم العيد، وهما عبادة لله تعالى، بعد قضاء شهر كامل على طاعته عز وجل.. لكنهما عبادة في صورة مختلفة، عبادة أريد بها إيصال المسلم إلى أعلى القمم في الإحسان والعطاء.
فلا يليق بالمسلم أن يخرج في هذا الاجتماع وهو مخاصم أو مشاحن، ولا يليق به أن يخرج في هذا الاجتماع وهو مفارق رُوحيًّا وعمليًّا لإخوانه الذين سيجتمع بهم، ولا يليق به أن يخرج يبحث عن فرحته متجاهلا إزاء فرحة أخيه..
بل يسعى كلّ مسلم لتحقيق الحكمة من هذا الاجتماع العظيم، ولتحقيق الفرح به، فكلّما عمقنا من صلتنا بإخواننا اقتربنا من تحقيق الغاية من عيدنا.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.